أخذ أئمة المذاهب جميعا أنفسهم عن أهل البيت وجعلوا ذلك فخرا لهم وسببا لنجاحهم. فأبو حنيفة(80هـ- 150هـ) أخذ بأقوال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى جعلوا ذلك من مرجحات مذهبه على غيره من المذاهب لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وكان أبو حنيفة يفتخر بالأخذ عن الإمام الصادق(عليه السلام)، ويقول: (لولا السنتان لهلك النعمان) في إشارة منه لمدة تتلمذه عليه.
ومالك بن أنس(93هـ-179هـ) هو أيضا أحد تلاميذ الإمام الصادق وعنه أخذ الشافعي(150هـ-198هـ) الذي لا يروي إلا عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولذلك اتهموه بالتشيع فافتخر قائلا:
أنا الشيعي في ديني وأصـ ــلي بمكة ثم داري عسقلية
بأطيب مولد وأعز فخر وأحسن مذهب يسمو البرية
وكذلك الإمام أحمد بن حنبل(164هـ-241هـ)، كان يفضل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) على الصحابة جميعا, وسئل يوما عن أفضل أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان, قيل: فعلي؟ قال: سألتموني عن أصحابه وعلي نفس محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).. إلى غير ذلك مما يطول ذكره, على أننا نجد أهل المذاهب متفرقين فيما بينهم، كل يذهب إلى رجحان مذهبه وبطلان غيره, ويقيم كل فريق أدلته للغلبة والظهور على الآخر. في حين أنهم جميعهم قد أخذوا العلم عن الإمام الصادق(عليه السلام).
لكن أخذ الشيعة عن أهل البيت (عليهم السلام) مباشرة، إنما هو لدلالة الكتاب والسنة, ومن دون ضرورة للأخذ بأصول الدين وفروعه عن غيرهم. فهم سفينة النجاة وأمان الأمة, وباب رئيس من دخله كان من الآمنين, والعروة الوثقى التي لا انفصام لها, وأحد الثقلين لا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي من ضل عن أحدهما.
وهنا لا بد من توضيح أمرهام، وهو أن كل المعارضات التي أجهد الساسة أنفسهم في تركيزها وآزرهم على ذلك جماعة من المرتزقة باعوا ضمائرهم بأبخس الأثمان إنما كانت بعيدة كل البعد عن الواقع, ولا نجد من أولئك المتشدقين بذم الشيعة والحط من كرامة أهل البيت(عليهم السلام) من أقام دليلا منطقيا يستطيع أن يثبت من خلاله ذلك الذم, وإنما هم متكسبون مهرجون, والدين منهم براء.
انتشار المذهب الجعفري:
إن المذهب الجعفري هو مذهب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, وهو أقدم المذاهب نشأة وأقواها عاملا. فقد تكون في عهد صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام, يوم غرس دوحة شريعته الغراء جنبا إلى جنب, ولم يزل غارسها(صلى الله عليه وآله وسلم) يتعهدها بالسقي والعناية حتى نبتت ونمت في حياته, ثم أثمرت بعد وفاته, حيث استمر أل بيته وخلّص أصحابه بتعهدها. وقد قام كل منهم بما يجب عليه من رعايتها, وتحمل من نكبات واضطهاد في سبيل حفظها من تلك السلطات التي كانت تحاول القضاء عليها للقضاء على آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد وقفوا أمام تلك التيارات وقفة إخلاص وإيمان وثبات على مبدأ الحق, ولم يأبهوا يوما بسلطة أو سياسة.
معارضة (المنصور) و(الرشيد) للمذهب الجعفري:
كان المنصور يأمل بالإمام أبي حنيفة عندما رعاه بعنايته ونصره فقدمه على كثير من الفقهاء ليوجد منه شخصية علمية تقف أمام انتشار المذهب الجعفري.
ولكنه سرعان ما خاب أمله, وفشلت خطته. فهذا الإمام أبو حنيفة نفسه يصرح للملأ بأنه ما رأى أعلم من جعفر بن محمد(عليه السلام)، وأنه أعلم الأمة.
وسأله رجل يوما عن إنسان وقف ماله للإمام فمن يكون المستحق؟ فأجاب أبو حنيفة: المستحق هو جعفر الصادق لأنه الإمام الحق.
ثم جاء الرشيد وبذل كل ما في وسعه لتحويل أنظار الناس عن آل محمد فأظهر تعظيم مالك بن أنس, وكان يجلس بين يديه تأدبا يتعلم منه العلم, ويأمر خواصه وأولاده باحترامه.
ثم قرب إليه الشافعي ونظر إليه نظرة عطف وحنان لأنه قرشي وأرسله إلى مصر بصحبة الوالي وأمره بإكرامه واحترامه وأعطاه سهم ذي القربى. وعامل أهل البيت بالقسوة والشدة وتتبع أنصارهم, والقضاء على من اتهمه في موالاتهم, حتى أنه ثقل عليه أن يكون علي بن أبي طالب(عليه السلام) رابع الخلفاء فحاول أن ينفي ذلك ويعاقب من يثبته.
قال أبو معاوية: دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا معاوية هممت بمن أثبت خلافة علي فعلت به وفعلت. قال أبو معاوية: يا أمير المؤمنين، قالت تيم: منا خليفة رسول الله. وقالت عدي: منا خليفة رسول الله. وقالت بنو أمية: منا خليفة الخلفاء, فأين حظكم يا بني هاشم من الخلافة؟ والله ما حظكم إلا ابن أبي طالب. وبهذا استطاع أبو معاوية أن يصرف الرشيد عن رأيه.
ومضى في سياسته العمياء التي لا تفرق بين الحق والباطل محاولا قلع بذرة حبهم التي زرعها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
ورغم تلك المحاولات الفاشلة بقي المذهب الجعفري ينتشر في العواصم ويتسع في الأقطار حتى كثر أتباعه وشاع بين الناس.
وانتشر المذهب الجعفري في جميع البلاد الإسلامية بقوة مقوماته من دون عوامل الترغيب أو استنادا إلى السلطة الحاكمة التي ساندت المذاهب الأخرى, وكان أول ظهور الشيعة في الحجاز, وهي أول أرض بذرت فيه بذرة التشيع. وفي القرن الرابع الهجري انتشر بصورة ظاهرة في المدينة المنورة.
كما انتشر التشيع في بلاد الشام وكان أبو ذر الغفاري(رضوان الله عليه) هو الذي نشر المذهب هناك, ولا يزال في قرية الصرفند بين صيدا وصور مقام معروف باسم أبي ذر اتخذ مسجدا معمورا. واليوم يوجد عدد كبير قد شغلوا مناصب مهمة في ادارة البلاد السورية, ومنهم العلماء والأطباء وكبار التجار, وتقام عندهم مآتم عاشوراء علنا في عاصمة الأمويين, ويحضرها الكثير من أهل السنة, والخطيب يصدح بمخازي معاوية وفضائح يزيد وجرائم بني أمية مستنبطا ذلك من التاريخ الصحيح.
جاء في خطط الشام:(في دمشق يرجع عهدهم(الشيعة) إلى القرن الأول للهجرة, وفي أكناف حوران وهم مهاجرة جبل عامل وفي شمالي لبنان والمتن والبترون وهم مهاجرة بعلبك, ولا يقل عدد الشيعة في الشام من الإمامية عن مئتي ألف نسمة). أما جبل عامل فقد كان بدء التشيع فيه بفضل الجهود التي بذلها المجاهد في سبيل الله أبو ذر الغفاري(رضوان الله عليه), وانتشر بسبب دعوته. وكانت الحركة العلمية واسعة فيه وما زالت.
وللشيعة في جامعة النجف الأشرف جامعة غفيرة تخرج منها عدد كبير من العلماء وحملة دعوة الاصلاح. ومنهم المجتهدون المجاهدون في نصرة الدين وجمع كلمة المسلمين كالعلامة المجاهد السيد محمد باقر الصدر (رحمة الله عليه).
وفي كربلاء حيث مرقد الإمام الحسين(عليه السلام)، للشيعة مراكز علمية كبيرة ألقت ولفترات طويلة على بلاد المسلمين ظلالها ولا تزال، وقد برز من تلك المدينة المقدسة كثير من علماء الإسلام أمثال الميرزا مهدي الشيرازي، وولده العلامة المجاهد السيد محمد(رحمة الله عليهما).
وفي حمص قرى للشيعة خاصة, وفي المدينة نفسها جماعات ظاهرة ومستترة, وفي أعمال إدلب قرى الغوطة ونبل وفوعة وغيرها, وكلها شيعة وفيها إلى اليوم بنو زهرة نقباء الأشراف في مدينة حلب, وكل هؤلاء من بقايا زمن الحمدانيين، ومن فلول شيعة حلب يوم تشتت شملهم، يشير بذلك إلى الكارثة التي أصابت الشيعة عندما أفتى الشيخ نوح الحنفي بكفر الشيعة واستباحة دمائهم تابوا أم لم يتوبوا, فقتل بسبب هذه الفتوى أربعون ألفا من الشيعة ونهب أموالهم وأخرج الباقون إلى القرى.
وانتشر المذهب الجعفري في حلب بصورة ظاهرة وأصبح لهم قوة لا يستهان بها حيث استطاعوا منع سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب عن بناء المدرسة الزجاجية وذلك حوالي سنة 517هـ.
ثم سرى التشيع في أفريقيا بانتشار عظيم إلى أن قاومته السلطة, يوم كان أمير أفريقيا المعز بن باديس, فإنه فتك بالشيعة فتكا ذريعا وذلك في عام 407هـ عندما أوقع بهم وقيعة كبرى.
وبرروا ذلك أنهم سبوا الشيخين وهي مادة كان يطبقها الولاة على من يريدون الفتك به من أي الفرق.
وذلك أن المعز بن باديس مر على جماعة من الشيعة في القيروان وقد سأل عنهم, فلما أحس الناس من المعز الميل عنهم انصرفت العامة من فورها إلى مجتمعات الشيعة, فقتلوا منهم خلقا كثيرا وتوجه الجند للنهب, وشجعهم عامل القيروان فقتل منهم خلق كثير وأحرقوا بالنار, ونهبت دورهم, وتتبعوهم في جميع أفريقيا, واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قرب القيروان فتحصنوا به, فحصرهم العامة وضيقوا عليهم, فاشتد عليهم الجوع فاقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم, ولجأ منهم جماعة إلى الجامع في المدينة فقتلوا كلهم.
وهذه إحدى النكبات الفظيعة التي لاقاها التشيع وقد ذاقوا مثلها ما هو أمر وأمر. ومع ذلك ومع هذه الاضطهادات, فإن التشيع اليوم انتشر في أفريقيا الوسطى والجنوبية بما يقارب العشرة ملايين نسمة.
وفي أندونيسيا ازداد عدد الشيعة فأصبح يقدر بثمانية ملايين نسمة وللعلويين هناك اليد الطولى في نشر المذهب الجعفري, وكان منهم العلامة السيد محمد عقيل صاحب المؤلفات القيمة كـ(النصائح الكافية) و(العتب الجميل) و(تقوية الإيمان) و(القول الفصل) وكان يقيم في سنغافورة. وكانت لهم أندية أدبية تربط أواصرهم.
أما في مصر فقد انتشر التشيع مع انتشار الإسلام بواسطة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين شهدوا فتح مصر, وهم المقداد بن الأسود الكندي، وأبو ذر الغفاري, وأبو رافع, وأبو أيوب الأنصاري, فهؤلاء وأصحابهم كانوا دعاة التشيع وأنصاره.
ولما دخلها عمار بن ياسر أيام عثمان بن عفان دعا إلى التشيع وتمثلت الناس به حتى أصبحت البلاد كلها إلى جانب الإمام علي(عليه السلام) وأجمعوا على مقاومة عثمان.
وبعد عمار دخلها قيس بن سعد واليا فأكمل طريق عمار وركز دعائم التشيع أكثر فتعالت أسهمه وكثرت جنوده, لكن بدخول عمرو بن العاص, المعروف بدهائه ومكره, تأخرت حركة التشيع واستمرت على هذه الحال من الجمود إلى أن زال ملك الأمويين, فأظهر المصريون ما انطوت عليه قلوبهم من الولاء لعلي(عليه السلام) وتنفسوا الصعداء. ولا زال التشيع يظهر في مصر حينا ويختفي حينا آخر حسب العوامل التي تدعوا إلى إخفائه وظهوره, واليوم الذي يزور مصر يلاحظ ويرى أن المذهب الجعفري منتشر هناك وتعتنقه جماهير غفيرة.
وفي الهند ظهر التشيع وانتشر بسبب الروابط المتصلة بين العرب والهنود. وبمساعي المرشدين الذين دخلوا بلاد الهند من الشيعة اعتنق المذهب الجعفري جماعة كبيرة من الوثنيين, ومنهم جماعة كثيرة باقون إلى اليوم ولهم إمارات في جميع الأقطار الهندية, ولا يخلو بلد منهم, وهناك بلد تختص بهم وهي: لكنهور, المركز الوحيد للشيعة في الهند وعاصمة مملكة أوده الفانية ومنبع علمائها قديما, تعد اليوم من أكبر البلاد العلمية, وفيها مدارس عربية أهمها: الجامعة السلطانية, ومنها مدرسة الواعظين وهي تختص بالتبليغ. والمدرسة الناظمية التي اسسها العلامة أبو حسن كما أسس الجامعة السلطانية.
وفي لكنهور الشيء الكثير من آثار الشيعة كالمساجد والحسينيات ومن البلدان جانبور, تبن آباد, لاهور, بنجاب، مظفر أباد.
وفي تركيا ظهر المذهب الجعفري وانتشر بصورة مكشوفة فكثر أتباعه وتزايد مناصروه, لكن السلطان سليم المتوفى سنة 926هـ قاوم الشيعة وقتل منهم خلقا كثيرا.
يقول إبراهيم الطبيب الأول للجيش التركي: وكان السلطان سليم شديد التعصب على أهل الشيعة, ولا سيما أنه كان في تلك الأيام قد انتشرت في رعاياه تعاليم شيعية تنافي مذهب أهل السنة, وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي, فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة, فقتلوا نحو أربعين ألف رجل, وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنه يوافق على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم.
ومع هذا الاضطهاد فإننا نجد اليوم في تركيا عددا كثيرا منتشرين في أطراف البلاد.
وفي السعودية, القطيف وجوارها نجد جماعات شيعية وفي الاحساء وقاعدتها(هفوف), وكذلك في قطر, يوجد كثير من الشيعة, ولا يزال من الاحساء والقطيف في النجف الأشرف مهاجرون لتحصيل العلم الديني, علم أهل البيت(عليهم السلام)، ومنهم علماء مبرزون وأدباء معروفون لهم مكانتهم الأدبية.
وفي البحرين للتشيع مكانة, ولأهله قوة, وقد برز منهم علماء خدموا الامة الإسلامية, بمؤلفاتهم القيمة وآثارهم الجليلة, التي تعد في الواقع من أفضل التراث الشيعي, ولهم في النجف الأشرف الآن بعثات تتلقى العلوم الدينية ومنهم علماء وأدباء وشعراء قاموا بدور عظيم في خدمة المذهب الجعفري.
وفي الأفغان انتشر التشيع منذ زمن بعيد, ويقدر عددهم اليوم بعشرة ملايين, ويوجد منهم في النجف الأشرف الآن بعثات يقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف نسمة منهم من يدرس الفقه الجعفري, وقد برز منهم علماء مبرزون لهم مكانة علمية عالية.
وقبل نصف قرن تقريبا هاجر كثير من الشيعة السوريين ومن اللبنانيين(جبل عامل) لتحصيل العيش في أمريكا, فعملوا في التجارة والزراعة, وهم ذوو شأن وعزة يقيمون هناك شعائر الإسلام, فبنوا مساجد فخمة في الولايات المتحدة ويقدر عددهم بمليون نسمة.
كما دخل المذهب الجعفري إلى الصين منذ القرن الرابع. وفي البلاد الروسية كان للشيعة دور بارز حيث أقاموا الشعائر الدينية بحرية واسعة كبلاد بخارى والقوقاس. وكانوا قبل الحرب العالمية يتواردون بكثرة لزيارة المشاهد المقدسة ويفدون مهاجرين لطلب العلم, والى اليوم نجد جماعة منهم في النجف الأشرف.
أما العراق, وما أدراك ماالعراق, فقد انتشر فيه مذهب أهل البيت في الصدر الأول من عصر الإسلام, وقام بذلك أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المجاهدون, في الكوفة, والمدائن, والبصرة. لكن الكوفة تميزت بصبغتها الإسلامية العلوية, وقام فيها رجال الدعوة في الدفاع عن أهل البيت(عليهم السلام), وتحملوا في عهد معاوية وابنه الطاغية المجرم يزيد الكثير من المصائب والبلاء, ويكفي مأساة كربلاء وقتل سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) ابن بنت رسول الله وأحد السبطين الكريمين.
وفي المدائن انتشر التشيع هناك على يد الصحابيين الجليلين سلمان المحمدي، وحذيفة بن اليمان, وكذلك الأمر في البصرة وغيرها من مدن العراق من الشمال إلى الجنوب حيث انتشر التشيع بصورة ظاهرة, والعراق اليوم معروف بتشيعه لأهل البيت(عليهم السلام) وولائه للعترة الطاهرة في معظم سكانه.
فالشيعة هم الأكثرية في العراق, قاوموا ظلم الأتراك بثورات متلاحقة سجلها لهم التاريخ بكل فخر, وقاوموا أيضا الاستعمار الانگليزي بكل ما لديهم من قوة, ما زالوا حتى اليوم يقاومون ويجاهدون.
وفي إيران كانت قم وحدها في القرن الأول شيعية وسار التشيع بخطى ثقيلة ثم انتشر في بلاد إيران بصورة تدريجية على مرّ الأدوار, حتى أصبحت ايران اليوم كلها شيعية حكومة وشعبا, وقامت بخدمة المذهب الجعفري ونشر مآثر أهل البيت(عليهم السلام) ومناصرة المحرومين في جميع البلدان الإسلامية, وفي اليمن يوجد عدد كبير من الشيعة نشروا التشيع في بقاع اليمن منذ صدر الإسلام.
هذه أهم الأصقاع التي تنبسط فيها منابت الشيعة الذين أحدثوا في جميع أصقاع العالم جاليات تعمل على نشر المذهب الجعفري وشرحه وبيان مضامينه وكانت لهم مواقف مشرفة في مقابلة الظالمين لا أثر فيها للغش والخداع, ولا يشوهها كسب الجوائز وطلب المناصب.
وما نلفت إليه عند المسلمين تأثرهم بآداب الإسلام وثقافته, وعنايتهم بالأفكار العميقة والمعاني الدقيقة, وتميزهم بالعواطف الثورية التي كانت سببا في استنهاض الأمة من كبوتها, وايقاظها من غفلتها.
ونقطة هامة أخرى يجدر الالتفات إليها وهي أن تاريخ الشيعة الغني جدا بالمآثر لم يدرس دراسة سليمة ترفع الستار الذي يكتنف مبادئهم وتطورهم, إذ أن المصادر التي يستمد منها الباحثون معلوماتهم عن الشيعة مضطربة ولا تصل بهم إلى الحقيقة, وسواء أكانت عن قصد أم عن غير قصد, لأنها مصادر محدودة لم تسلم من سيطرة التعصب الأعمى وتغليب الأهواء الخاصة والتحيز البغيض.
ولا ننسى في هذا المجال كتاب الفرق الذين سلكوا طريق الافتراء والتحامل, فلم يكتبوا للعلم بل كانت معظم كتاباتهم مجردة تجريدا واضحا عن كل ما له صلة بالحقيقة. وهذا ما يجب علينا بيانه وتوضيحه. كما يجب على طلابنا في دراساتهم وأبحاثهم أن يكشفوا الحقائق بكل جلاء ووضوح ويبينوها أمام الملأ العام بأسانيد علمية موضوعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) بتصرف عن كتاب(الإمام الصادق عطر النبوة ومنهج حياة) للدكتور حسين الحاج حسن. ط1 سنة1997م.
ومالك بن أنس(93هـ-179هـ) هو أيضا أحد تلاميذ الإمام الصادق وعنه أخذ الشافعي(150هـ-198هـ) الذي لا يروي إلا عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولذلك اتهموه بالتشيع فافتخر قائلا:
أنا الشيعي في ديني وأصـ ــلي بمكة ثم داري عسقلية
بأطيب مولد وأعز فخر وأحسن مذهب يسمو البرية
وكذلك الإمام أحمد بن حنبل(164هـ-241هـ)، كان يفضل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) على الصحابة جميعا, وسئل يوما عن أفضل أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان, قيل: فعلي؟ قال: سألتموني عن أصحابه وعلي نفس محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).. إلى غير ذلك مما يطول ذكره, على أننا نجد أهل المذاهب متفرقين فيما بينهم، كل يذهب إلى رجحان مذهبه وبطلان غيره, ويقيم كل فريق أدلته للغلبة والظهور على الآخر. في حين أنهم جميعهم قد أخذوا العلم عن الإمام الصادق(عليه السلام).
لكن أخذ الشيعة عن أهل البيت (عليهم السلام) مباشرة، إنما هو لدلالة الكتاب والسنة, ومن دون ضرورة للأخذ بأصول الدين وفروعه عن غيرهم. فهم سفينة النجاة وأمان الأمة, وباب رئيس من دخله كان من الآمنين, والعروة الوثقى التي لا انفصام لها, وأحد الثقلين لا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي من ضل عن أحدهما.
وهنا لا بد من توضيح أمرهام، وهو أن كل المعارضات التي أجهد الساسة أنفسهم في تركيزها وآزرهم على ذلك جماعة من المرتزقة باعوا ضمائرهم بأبخس الأثمان إنما كانت بعيدة كل البعد عن الواقع, ولا نجد من أولئك المتشدقين بذم الشيعة والحط من كرامة أهل البيت(عليهم السلام) من أقام دليلا منطقيا يستطيع أن يثبت من خلاله ذلك الذم, وإنما هم متكسبون مهرجون, والدين منهم براء.
انتشار المذهب الجعفري:
إن المذهب الجعفري هو مذهب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, وهو أقدم المذاهب نشأة وأقواها عاملا. فقد تكون في عهد صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام, يوم غرس دوحة شريعته الغراء جنبا إلى جنب, ولم يزل غارسها(صلى الله عليه وآله وسلم) يتعهدها بالسقي والعناية حتى نبتت ونمت في حياته, ثم أثمرت بعد وفاته, حيث استمر أل بيته وخلّص أصحابه بتعهدها. وقد قام كل منهم بما يجب عليه من رعايتها, وتحمل من نكبات واضطهاد في سبيل حفظها من تلك السلطات التي كانت تحاول القضاء عليها للقضاء على آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد وقفوا أمام تلك التيارات وقفة إخلاص وإيمان وثبات على مبدأ الحق, ولم يأبهوا يوما بسلطة أو سياسة.
معارضة (المنصور) و(الرشيد) للمذهب الجعفري:
كان المنصور يأمل بالإمام أبي حنيفة عندما رعاه بعنايته ونصره فقدمه على كثير من الفقهاء ليوجد منه شخصية علمية تقف أمام انتشار المذهب الجعفري.
ولكنه سرعان ما خاب أمله, وفشلت خطته. فهذا الإمام أبو حنيفة نفسه يصرح للملأ بأنه ما رأى أعلم من جعفر بن محمد(عليه السلام)، وأنه أعلم الأمة.
وسأله رجل يوما عن إنسان وقف ماله للإمام فمن يكون المستحق؟ فأجاب أبو حنيفة: المستحق هو جعفر الصادق لأنه الإمام الحق.
ثم جاء الرشيد وبذل كل ما في وسعه لتحويل أنظار الناس عن آل محمد فأظهر تعظيم مالك بن أنس, وكان يجلس بين يديه تأدبا يتعلم منه العلم, ويأمر خواصه وأولاده باحترامه.
ثم قرب إليه الشافعي ونظر إليه نظرة عطف وحنان لأنه قرشي وأرسله إلى مصر بصحبة الوالي وأمره بإكرامه واحترامه وأعطاه سهم ذي القربى. وعامل أهل البيت بالقسوة والشدة وتتبع أنصارهم, والقضاء على من اتهمه في موالاتهم, حتى أنه ثقل عليه أن يكون علي بن أبي طالب(عليه السلام) رابع الخلفاء فحاول أن ينفي ذلك ويعاقب من يثبته.
قال أبو معاوية: دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا معاوية هممت بمن أثبت خلافة علي فعلت به وفعلت. قال أبو معاوية: يا أمير المؤمنين، قالت تيم: منا خليفة رسول الله. وقالت عدي: منا خليفة رسول الله. وقالت بنو أمية: منا خليفة الخلفاء, فأين حظكم يا بني هاشم من الخلافة؟ والله ما حظكم إلا ابن أبي طالب. وبهذا استطاع أبو معاوية أن يصرف الرشيد عن رأيه.
ومضى في سياسته العمياء التي لا تفرق بين الحق والباطل محاولا قلع بذرة حبهم التي زرعها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
ورغم تلك المحاولات الفاشلة بقي المذهب الجعفري ينتشر في العواصم ويتسع في الأقطار حتى كثر أتباعه وشاع بين الناس.
وانتشر المذهب الجعفري في جميع البلاد الإسلامية بقوة مقوماته من دون عوامل الترغيب أو استنادا إلى السلطة الحاكمة التي ساندت المذاهب الأخرى, وكان أول ظهور الشيعة في الحجاز, وهي أول أرض بذرت فيه بذرة التشيع. وفي القرن الرابع الهجري انتشر بصورة ظاهرة في المدينة المنورة.
كما انتشر التشيع في بلاد الشام وكان أبو ذر الغفاري(رضوان الله عليه) هو الذي نشر المذهب هناك, ولا يزال في قرية الصرفند بين صيدا وصور مقام معروف باسم أبي ذر اتخذ مسجدا معمورا. واليوم يوجد عدد كبير قد شغلوا مناصب مهمة في ادارة البلاد السورية, ومنهم العلماء والأطباء وكبار التجار, وتقام عندهم مآتم عاشوراء علنا في عاصمة الأمويين, ويحضرها الكثير من أهل السنة, والخطيب يصدح بمخازي معاوية وفضائح يزيد وجرائم بني أمية مستنبطا ذلك من التاريخ الصحيح.
جاء في خطط الشام:(في دمشق يرجع عهدهم(الشيعة) إلى القرن الأول للهجرة, وفي أكناف حوران وهم مهاجرة جبل عامل وفي شمالي لبنان والمتن والبترون وهم مهاجرة بعلبك, ولا يقل عدد الشيعة في الشام من الإمامية عن مئتي ألف نسمة). أما جبل عامل فقد كان بدء التشيع فيه بفضل الجهود التي بذلها المجاهد في سبيل الله أبو ذر الغفاري(رضوان الله عليه), وانتشر بسبب دعوته. وكانت الحركة العلمية واسعة فيه وما زالت.
وللشيعة في جامعة النجف الأشرف جامعة غفيرة تخرج منها عدد كبير من العلماء وحملة دعوة الاصلاح. ومنهم المجتهدون المجاهدون في نصرة الدين وجمع كلمة المسلمين كالعلامة المجاهد السيد محمد باقر الصدر (رحمة الله عليه).
وفي كربلاء حيث مرقد الإمام الحسين(عليه السلام)، للشيعة مراكز علمية كبيرة ألقت ولفترات طويلة على بلاد المسلمين ظلالها ولا تزال، وقد برز من تلك المدينة المقدسة كثير من علماء الإسلام أمثال الميرزا مهدي الشيرازي، وولده العلامة المجاهد السيد محمد(رحمة الله عليهما).
وفي حمص قرى للشيعة خاصة, وفي المدينة نفسها جماعات ظاهرة ومستترة, وفي أعمال إدلب قرى الغوطة ونبل وفوعة وغيرها, وكلها شيعة وفيها إلى اليوم بنو زهرة نقباء الأشراف في مدينة حلب, وكل هؤلاء من بقايا زمن الحمدانيين، ومن فلول شيعة حلب يوم تشتت شملهم، يشير بذلك إلى الكارثة التي أصابت الشيعة عندما أفتى الشيخ نوح الحنفي بكفر الشيعة واستباحة دمائهم تابوا أم لم يتوبوا, فقتل بسبب هذه الفتوى أربعون ألفا من الشيعة ونهب أموالهم وأخرج الباقون إلى القرى.
وانتشر المذهب الجعفري في حلب بصورة ظاهرة وأصبح لهم قوة لا يستهان بها حيث استطاعوا منع سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب عن بناء المدرسة الزجاجية وذلك حوالي سنة 517هـ.
ثم سرى التشيع في أفريقيا بانتشار عظيم إلى أن قاومته السلطة, يوم كان أمير أفريقيا المعز بن باديس, فإنه فتك بالشيعة فتكا ذريعا وذلك في عام 407هـ عندما أوقع بهم وقيعة كبرى.
وبرروا ذلك أنهم سبوا الشيخين وهي مادة كان يطبقها الولاة على من يريدون الفتك به من أي الفرق.
وذلك أن المعز بن باديس مر على جماعة من الشيعة في القيروان وقد سأل عنهم, فلما أحس الناس من المعز الميل عنهم انصرفت العامة من فورها إلى مجتمعات الشيعة, فقتلوا منهم خلقا كثيرا وتوجه الجند للنهب, وشجعهم عامل القيروان فقتل منهم خلق كثير وأحرقوا بالنار, ونهبت دورهم, وتتبعوهم في جميع أفريقيا, واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قرب القيروان فتحصنوا به, فحصرهم العامة وضيقوا عليهم, فاشتد عليهم الجوع فاقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم, ولجأ منهم جماعة إلى الجامع في المدينة فقتلوا كلهم.
وهذه إحدى النكبات الفظيعة التي لاقاها التشيع وقد ذاقوا مثلها ما هو أمر وأمر. ومع ذلك ومع هذه الاضطهادات, فإن التشيع اليوم انتشر في أفريقيا الوسطى والجنوبية بما يقارب العشرة ملايين نسمة.
وفي أندونيسيا ازداد عدد الشيعة فأصبح يقدر بثمانية ملايين نسمة وللعلويين هناك اليد الطولى في نشر المذهب الجعفري, وكان منهم العلامة السيد محمد عقيل صاحب المؤلفات القيمة كـ(النصائح الكافية) و(العتب الجميل) و(تقوية الإيمان) و(القول الفصل) وكان يقيم في سنغافورة. وكانت لهم أندية أدبية تربط أواصرهم.
أما في مصر فقد انتشر التشيع مع انتشار الإسلام بواسطة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين شهدوا فتح مصر, وهم المقداد بن الأسود الكندي، وأبو ذر الغفاري, وأبو رافع, وأبو أيوب الأنصاري, فهؤلاء وأصحابهم كانوا دعاة التشيع وأنصاره.
ولما دخلها عمار بن ياسر أيام عثمان بن عفان دعا إلى التشيع وتمثلت الناس به حتى أصبحت البلاد كلها إلى جانب الإمام علي(عليه السلام) وأجمعوا على مقاومة عثمان.
وبعد عمار دخلها قيس بن سعد واليا فأكمل طريق عمار وركز دعائم التشيع أكثر فتعالت أسهمه وكثرت جنوده, لكن بدخول عمرو بن العاص, المعروف بدهائه ومكره, تأخرت حركة التشيع واستمرت على هذه الحال من الجمود إلى أن زال ملك الأمويين, فأظهر المصريون ما انطوت عليه قلوبهم من الولاء لعلي(عليه السلام) وتنفسوا الصعداء. ولا زال التشيع يظهر في مصر حينا ويختفي حينا آخر حسب العوامل التي تدعوا إلى إخفائه وظهوره, واليوم الذي يزور مصر يلاحظ ويرى أن المذهب الجعفري منتشر هناك وتعتنقه جماهير غفيرة.
وفي الهند ظهر التشيع وانتشر بسبب الروابط المتصلة بين العرب والهنود. وبمساعي المرشدين الذين دخلوا بلاد الهند من الشيعة اعتنق المذهب الجعفري جماعة كبيرة من الوثنيين, ومنهم جماعة كثيرة باقون إلى اليوم ولهم إمارات في جميع الأقطار الهندية, ولا يخلو بلد منهم, وهناك بلد تختص بهم وهي: لكنهور, المركز الوحيد للشيعة في الهند وعاصمة مملكة أوده الفانية ومنبع علمائها قديما, تعد اليوم من أكبر البلاد العلمية, وفيها مدارس عربية أهمها: الجامعة السلطانية, ومنها مدرسة الواعظين وهي تختص بالتبليغ. والمدرسة الناظمية التي اسسها العلامة أبو حسن كما أسس الجامعة السلطانية.
وفي لكنهور الشيء الكثير من آثار الشيعة كالمساجد والحسينيات ومن البلدان جانبور, تبن آباد, لاهور, بنجاب، مظفر أباد.
وفي تركيا ظهر المذهب الجعفري وانتشر بصورة مكشوفة فكثر أتباعه وتزايد مناصروه, لكن السلطان سليم المتوفى سنة 926هـ قاوم الشيعة وقتل منهم خلقا كثيرا.
يقول إبراهيم الطبيب الأول للجيش التركي: وكان السلطان سليم شديد التعصب على أهل الشيعة, ولا سيما أنه كان في تلك الأيام قد انتشرت في رعاياه تعاليم شيعية تنافي مذهب أهل السنة, وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي, فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة, فقتلوا نحو أربعين ألف رجل, وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنه يوافق على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم.
ومع هذا الاضطهاد فإننا نجد اليوم في تركيا عددا كثيرا منتشرين في أطراف البلاد.
وفي السعودية, القطيف وجوارها نجد جماعات شيعية وفي الاحساء وقاعدتها(هفوف), وكذلك في قطر, يوجد كثير من الشيعة, ولا يزال من الاحساء والقطيف في النجف الأشرف مهاجرون لتحصيل العلم الديني, علم أهل البيت(عليهم السلام)، ومنهم علماء مبرزون وأدباء معروفون لهم مكانتهم الأدبية.
وفي البحرين للتشيع مكانة, ولأهله قوة, وقد برز منهم علماء خدموا الامة الإسلامية, بمؤلفاتهم القيمة وآثارهم الجليلة, التي تعد في الواقع من أفضل التراث الشيعي, ولهم في النجف الأشرف الآن بعثات تتلقى العلوم الدينية ومنهم علماء وأدباء وشعراء قاموا بدور عظيم في خدمة المذهب الجعفري.
وفي الأفغان انتشر التشيع منذ زمن بعيد, ويقدر عددهم اليوم بعشرة ملايين, ويوجد منهم في النجف الأشرف الآن بعثات يقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف نسمة منهم من يدرس الفقه الجعفري, وقد برز منهم علماء مبرزون لهم مكانة علمية عالية.
وقبل نصف قرن تقريبا هاجر كثير من الشيعة السوريين ومن اللبنانيين(جبل عامل) لتحصيل العيش في أمريكا, فعملوا في التجارة والزراعة, وهم ذوو شأن وعزة يقيمون هناك شعائر الإسلام, فبنوا مساجد فخمة في الولايات المتحدة ويقدر عددهم بمليون نسمة.
كما دخل المذهب الجعفري إلى الصين منذ القرن الرابع. وفي البلاد الروسية كان للشيعة دور بارز حيث أقاموا الشعائر الدينية بحرية واسعة كبلاد بخارى والقوقاس. وكانوا قبل الحرب العالمية يتواردون بكثرة لزيارة المشاهد المقدسة ويفدون مهاجرين لطلب العلم, والى اليوم نجد جماعة منهم في النجف الأشرف.
أما العراق, وما أدراك ماالعراق, فقد انتشر فيه مذهب أهل البيت في الصدر الأول من عصر الإسلام, وقام بذلك أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المجاهدون, في الكوفة, والمدائن, والبصرة. لكن الكوفة تميزت بصبغتها الإسلامية العلوية, وقام فيها رجال الدعوة في الدفاع عن أهل البيت(عليهم السلام), وتحملوا في عهد معاوية وابنه الطاغية المجرم يزيد الكثير من المصائب والبلاء, ويكفي مأساة كربلاء وقتل سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) ابن بنت رسول الله وأحد السبطين الكريمين.
وفي المدائن انتشر التشيع هناك على يد الصحابيين الجليلين سلمان المحمدي، وحذيفة بن اليمان, وكذلك الأمر في البصرة وغيرها من مدن العراق من الشمال إلى الجنوب حيث انتشر التشيع بصورة ظاهرة, والعراق اليوم معروف بتشيعه لأهل البيت(عليهم السلام) وولائه للعترة الطاهرة في معظم سكانه.
فالشيعة هم الأكثرية في العراق, قاوموا ظلم الأتراك بثورات متلاحقة سجلها لهم التاريخ بكل فخر, وقاوموا أيضا الاستعمار الانگليزي بكل ما لديهم من قوة, ما زالوا حتى اليوم يقاومون ويجاهدون.
وفي إيران كانت قم وحدها في القرن الأول شيعية وسار التشيع بخطى ثقيلة ثم انتشر في بلاد إيران بصورة تدريجية على مرّ الأدوار, حتى أصبحت ايران اليوم كلها شيعية حكومة وشعبا, وقامت بخدمة المذهب الجعفري ونشر مآثر أهل البيت(عليهم السلام) ومناصرة المحرومين في جميع البلدان الإسلامية, وفي اليمن يوجد عدد كبير من الشيعة نشروا التشيع في بقاع اليمن منذ صدر الإسلام.
هذه أهم الأصقاع التي تنبسط فيها منابت الشيعة الذين أحدثوا في جميع أصقاع العالم جاليات تعمل على نشر المذهب الجعفري وشرحه وبيان مضامينه وكانت لهم مواقف مشرفة في مقابلة الظالمين لا أثر فيها للغش والخداع, ولا يشوهها كسب الجوائز وطلب المناصب.
وما نلفت إليه عند المسلمين تأثرهم بآداب الإسلام وثقافته, وعنايتهم بالأفكار العميقة والمعاني الدقيقة, وتميزهم بالعواطف الثورية التي كانت سببا في استنهاض الأمة من كبوتها, وايقاظها من غفلتها.
ونقطة هامة أخرى يجدر الالتفات إليها وهي أن تاريخ الشيعة الغني جدا بالمآثر لم يدرس دراسة سليمة ترفع الستار الذي يكتنف مبادئهم وتطورهم, إذ أن المصادر التي يستمد منها الباحثون معلوماتهم عن الشيعة مضطربة ولا تصل بهم إلى الحقيقة, وسواء أكانت عن قصد أم عن غير قصد, لأنها مصادر محدودة لم تسلم من سيطرة التعصب الأعمى وتغليب الأهواء الخاصة والتحيز البغيض.
ولا ننسى في هذا المجال كتاب الفرق الذين سلكوا طريق الافتراء والتحامل, فلم يكتبوا للعلم بل كانت معظم كتاباتهم مجردة تجريدا واضحا عن كل ما له صلة بالحقيقة. وهذا ما يجب علينا بيانه وتوضيحه. كما يجب على طلابنا في دراساتهم وأبحاثهم أن يكشفوا الحقائق بكل جلاء ووضوح ويبينوها أمام الملأ العام بأسانيد علمية موضوعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) بتصرف عن كتاب(الإمام الصادق عطر النبوة ومنهج حياة) للدكتور حسين الحاج حسن. ط1 سنة1997م.